سورة الأحقاف - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحقاف)


        


قوله: {واذكر أَخَا عَادٍ} أي: واذكر يا محمد لقومك أخا عاد، وهو هود بن عبد الله بن رباح، كان أخاهم في النسب، لا في الدين، وقوله: {إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ} بدل اشتمال منه، أي: وقت إنذاره إياهم {بالأحقاف} وهي ديار عاد، جمع حقف، وهو الرمل العظيم المستطيل المعوج قاله الخليل وغيره، وكانوا قهروا أهل الأرض بقوّتهم، والمعنى: أن الله سبحانه أمره أن يذكر لقومه قصتهم؛ ليتعظوا ويخافوا، وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصتهم مع هود؛ ليقتدي به ويهون عليه تكذيب قومه. قال عطاء: الأحقاف: رمال بلاد الشحر.
وقال مقاتل: هي باليمن في حضرموت، وقال ابن زيد: هي رمال مبسوطة مستطيلة كهيئة الجبال، ولم تبلغ أن تكون جبالاً {وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: وقد مضت الرسل من قبله ومن بعده، كذا قال الفراء وغيره. وفي قراءة ابن مسعود: {من بين يديه ومن بعده} والجملة في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون معترضة بين إنذار هود، وبين قوله لقومه: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ} والأوّل أولى. والمعنى: أعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله، والذين سيبعثون بعده كلهم منذرون نحو إنذاره، ثم رجع إلى كلام هود لقومه، فقال حاكياً عنه: {إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وقيل: إن جعل تلك الجملة اعتراضية أولى بالمقام، وأوفق بالمعنى {قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءالِهَتِنَا} أي: لتصرفنا عن عبادتها، وقيل: لتزيلنا، وقيل: لتمنعنا، والمعنى متقارب، ومنه قول عروة بن أذينة:
إن تك عن حسن الصنيعة مأفو *** كاً ففي آخرين قد أفكوا
يقول: إن لم توفق للإحسان، فأنت في قوم قد صرفوا عن ذلك. {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذاب العظيم {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} في وعدك لنا به. {قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله} أي: إنما العلم بوقت مجيئه عند الله لا عندي {وَأُبَلّغُكُمْ مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ} إليكم من ربكم من الإنذار والإعذار، فأما العلم بوقت مجيء العذاب، فما أوحاه إليّ {ولكنى أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} حيث بقيتم مصرّين على كفركم، ولم تهتدوا بما جئتكم به، بل اقترحتم عليّ ما ليس من وظائف الرسل. {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} الضمير يرجع إلى {ما} في قوله: {بِمَا تَعِدُنَا}.
وقال المبرد، والزجاج: الضمير في {رَأَوْهُ} يعود إلى غير مذكور، وبينه قوله: {عَارِضاً}، فالضمير يعود إلى السحاب، أي: فلما رأوا السحاب عارضاً، ف {عارضاً} نصب على التكرير، يعني: التفسير، وسمي السحاب عارضاً لأنه يبدو في عرض السماء. قال الجوهري: العارض: السحاب يعترض في الأفق، ومنه قوله: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} وانتصاب {عارضاً} على الحال، أو التمييز {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أي: متوجهاً نحو أوديتهم.
قال المفسرون: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أياماً، فساق الله إليهم سحابة سوداء، فخرجت عليهم من واد لهم يقال له: المعتب، فلما رأوه مستقبل أوديتهم استبشروا، و{قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} أي: غيم فيه مطر، وقوله: {مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} صفة لعارض؛ لأن إضافته لفظية لا معنوية، فصح وصف النكرة به، وهكذا ممطرنا، فلما قالوا ذلك أجاب عليهم هود، فقال: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} يعني: من العذاب حيث قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} وقوله: {رِيحٌ} بدل من ما، أو خبر مبتدأ محذوف، وجملة: {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} صفة لريح، والريح التي عذبوا بها نشأت من ذلك السحاب الذي رأوه. {تُدَمّرُ كُلَّ شَئ بِأَمْرِ رَبّهَا} هذه الجملة صفة ثانية لريح، أي: تهلك كل شيء مرّت به من نفوس عاد وأموالها، والتدمير: الإهلاك، وكذا الدمار، وقرئ {يدمر} بالتحتية مفتوحة وسكون الدال وضم الميم، ورفع {كلّ} على الفاعلية من دمر دماراً، ومعنى {بِأَمْرِ رَبّهَا}: أن ذلك بقضائه وقدره {فَأْصْبَحُواْ لاَ تَرَى إلا مساكنهم} أي: لا ترى أنت يا محمد، أو كل من يصلح للرؤية إلاّ مساكنهم بعد ذهاب أنفسهم وأموالهم. قرأ الجمهور {لا ترى} بالفوقية على الخطاب، ونصب مساكنهم. وقرأ حمزة، وعاصم بالتحتية مضمومة مبنياً للمفعول، ورفع مساكنهم. قال سيبويه: معناه لا يرى أشخاصهم إلاّ مساكنهم، واختار أبو عبيد، وأبو حاتم القراءة الثانية. قال الكسائي، والزجاج: معناها لا يرى شيء إلاّ مساكنهم، فهي محمولة على المعنى كما تقول: ما قام إلاّ هند، والمعنى: ما قام أحد إلاّ هند، وفي الكلام حذف، والتقدير: فجاءتهم الريح فدمرتهم، فأصبحوا لا يرى إلاّ مساكنهم {كذلك نَجْزِي القوم المجرمين} أي: مثل ذلك الجزاء نجزي هؤلاء، وقد مرّ بيان هذه القصة في سورة الأعراف. {وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} قال المبرد: ما في قوله: {فيما} بمنزلة (الذي)، و{إن} بمنزلة (ما)، يعني: النافية، وتقديره: ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه من المال وطول العمر وقوّة الأبدان، وقيل: {إن} زائدة، وتقديره: ولقد مكناهم فيما مكناكم فيه، وبه قال القتيبي، ومثله قول الشاعر:
فما إن طبنا جبن ولكن *** منايانا ودولة آخرينا
والأوّل أولى؛ لأنه أبلغ في التوبيخ لكفار قريش، وأمثالهم {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبصارا وَأَفْئِدَةً} أي: إنهم أعرضوا عن قبول الحجة، والتذكر مع ما أعطاهم الله من الحواسّ التي بها تدرك الأدلة، ولهذا قال: {فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبصارهم وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مّن شَئ} أي: فما نفعهم ما أعطاهم الله من ذلك حيث لم يتوصلوا به إلى التوحيد، وصحة الوعد والوعيد، وقد قدّمنا من الكلام على وجه إفراد السمع، وجمع البصر ما يغني عن الإعادة، و{من} في {مِن شَئ} زائدة، والتقدير: فما أغنى عنهم شيء من الإِغناء، ولا نفعهم بوجه من وجوه النفع {إذ كانوا يجحدون بآيات الله} الظرف متعلق ب {أغنى}، وفيها معنى التعليل أي: لأنهم كانوا يجحدون {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يستهزئون} أي: أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء حيث قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا}.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مّنَ القرى} الخطاب لأهل مكة، والمراد بما حولهم من القرى: قرى ثمود، وقرى لوط، ونحوهما مما كان مجاوراً لبلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم {وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: بينا الحجج ونوّعناها؛ لكي يرجعوا عن كفرهم فلم يرجعوا. ثم ذكر سبحانه أنه لم ينصرهم من عذاب الله ناصر، فقال: {فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً ءالِهَةَ} أي: فهلا نصرهم آلهتهم التي تقرّبوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس: 18] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي: القربان: كل ما يتقرّب به إلى الله من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين، وأحد مفعولي {اتخذوا} ضمير راجع إلى الموصول، والثاني آلهة، و{قرباناً} حال، ولا يصح أن يكون قرباناً مفعولاً ثانياً، و{آلهةً} بدلاً منه لفساد المعنى، وقيل: يصح ذلك ولا يفسد المعنى، ورجحه ابن عطية، وأبو البقاء، وأبو حيان، وأنكر أن يكون في المعنى فساد على هذا الوجه {بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ} أي: غابوا عن نصرهم، ولم يحضروا عند الحاجة إليهم، وقيل: بل هلكوا، وقيل: الضمير في ضلوا راجع إلى الكفار، أي: تركوا الأصنام وتبرءوا منها، والأوّل أولى. والإشارة بقوله: {وَذَلِكَ} إلى ضلال آلهتهم. والمعنى: وذلك الضلال والضياع أثر {إِفْكِهِمْ} الذي هو اتخاذهم إياها آلهةً وزعمهم أنها تقرّبهم إلى الله. قرأ الجمهور {إفكهم} بكسر الهمزة، وسكون الفاء مصدر أفك يأفك إفكاً، أي: كذبهم. وقرأ ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد بفتح الهمزة والفاء والكاف على أنه فعل أي: ذلك القول صرفهم عن التوحيد. وقرأ عكرمة بفتح الهمزة وتشديد الفاء، أي: صيرهم آفكين. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالمدّ، وكسر الفاء بمعنى: صارفهم {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} معطوف على {إفكهم} أي: وأثر افترائهم، أو أثر الذي كانوا يفترونه. والمعنى: وذلك إفكهم أي: كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقرّبهم إلى الله، وتشفع لهم {وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} أي: يكذبون أنها آلهة.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأحقاف: جبل بالشام.
وأخرج البخاريّ، ومسلم، وغيرهما عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه، قلت: يا رسول الله، الناس إذا رأوا الغيم فرحوا أن يكون فيه المطر.
وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية، قال: «يا عائشة: وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب، قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب، فقالوا: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}».
وأخرج مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: «اللَّهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به»، فإذا تخيلت السماء تغير لونه، وخرج ودخل وأقبل وأدبر، فإذا مطرت سرّي عنه، فسألته فقال: «لا أدري، لعله كما قال قوم عاد: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}».
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب السحاب، وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} قالوا: غيم فيه مطر، فأوّل ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجاً من رجالهم، ومواشيهم تطير بين السماء والأرض مثل الريش دخلوا بيوتهم، وغلقوا أبوابهم، فجاءت الريح ففتحت أبوابهم، ومالت عليهم بالرمل، فكانوا تحت الرمل سبع ليال، وثمانية أيام حسوماً لهم أنين، ثم أمر الله الريح، فكشفت عنهم الرمل وطرحتهم في البحر، فهو قوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مساكنهم}.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: ما أرسل الله على عاد من الريح إلاّ قدر خاتمي هذا.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَلَقَدْ مكناهم فِيمَا إِن مكناكم فِيهِ} يقول: لم نمكنكم.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية قال: عاد مكنوا في الأرض أفضل مما مكنت فيه هذه الأمة، وكانوا أشدّ قوة وأكثر أموالاً وأطول أعماراً.


لما بيّن سبحانه أن في الإنس من آمن، وفيهم من كفر، بيّن أيضاً أن في الجنّ كذلك، فقال: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن} العامل في الظرف مقدّر، أي: واذكر إذ صرفنا. أي: وجهنا إليك نفراً من الجنّ، وبعثناهم إليك، وقوله: {يَسْتَمِعُونَ القرءان} في محل نصب صفة ثانية ل {نفراً} أو حال؛ لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي: حضروا القرآن عند تلاوته، وقيل: حضروا النبيّ صلى الله عليه وسلم، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة، والأول أولى {قَالُواْ أَنصِتُواْ} أي: قال بعضهم لبعض: اسكتوا، أمروا بعضهم بعضاً بذلك؛ لأجل أن يسمعوا {فَلَمَّا قُضِىَ} قرأ الجمهور {قضي} مبنياً للمفعول، أي: فرغ من تلاوته. وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير، ولاحق بن حميد، وأبو مجلز على البناء للفاعل، أي: فرغ النبيّ صلى الله عليه وسلم من تلاوته، والقراءة الأولى تؤيد أن الضمير في {حَضَرُوهُ} للقرآن، والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبيّ صلى الله عليه وسلم {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} أي: انصرفوا قاصدين إلى من وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن، ومحذرين لهم، وانتصاب: {منذرين} على الحال المقدّرة، أي: مقدّرين الإنذار، وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبيّ، وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك. {قَالُواْ يا قَوْمُنَا إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} يعنون: القرآن؛ وفي الكلام حذف، والتقدير: فوصلوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا. قال عطاء: كانوا يهوداً فأسلموا {مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لما قبله من الكتب المنزّلة {يَهْدِى إِلَى الحق} أي: إلى الدين الحقّ {وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي: إلى طريق الله القويم. قال مقاتل: لم يبعث الله نبياً إلى الجنّ والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم. {ياقومنا أَجِيبُواْ دَاعِىَ الله وَءامِنُواْ به} يعنون: محمداً صلى الله عليه وسلم، أو القرآن {يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ} أي: بعضها، وهو ما عدا حقّ العباد، وقيل: {إن} من هنا لابتداء الغاية. والمعنى: أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب، ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى، وقيل: هي زائدة {وَيُجِرْكُمْ مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وهو عذاب النار، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجنّ حكم الإنس في الثواب والعقاب، والتعبد بالأوامر والنواهي.
وقال الحسن: ليس لمؤمني الجنّ ثواب غير نجاتهم من النار، وبه قال أبو حنيفة. والأوّل أولى، وبه قال مالك، والشافعي، وابن أبي ليلى. وعلى القول الأوّل، فقال القائلون به: أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم: كونوا تراباً، كما يقال للبهائم والثاني أرجح.
وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجنّ والإنس: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} [الرحمن: 46، 47] فامتنّ سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، ولا ينافي هذا الاقتصار ها هنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار، وهو مقام عدل، فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة، وهو مقام فضل، ومما يؤيد هذا أيضاً ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة، وجزاء من عمل الصالحات الجنة، وجزاء من قال لا إله إلاّ الله الجنة، وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة.
وقد اختلف أهل العلم هل أرسل الله إلى الجن رسلاً منهم أم لا؟ وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط، كما في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِى إِلَيْهِمْ مّنْ أَهْلِ القرى} [يوسف: 109]. وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِى الأسواق} [الفرقان: 20] وقال سبحانه في إبراهيم الخليل: {وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِ النبوة والكتاب} [العنكبوت: 27]، فكل نبيّ بعثه الله بعد إبراهيم، فهو من ذرّيته، وأما قوله تعالى في سورة الأنعام: {يامعشر الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مّنْكُمْ} [الأنعام: 130] فقيل: المراد من مجموع الجنسين، وصدق على أحدهما، وهم الإنس: كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] أي: من أحدهما. {وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِىَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِى الأرض} أي: لا يفوت الله، ولا يسبقه، ولا يقدر على الهرب منه؛ لأنه وإن هرب كل مهرب، فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها، وفي هذا ترهيب شديد {وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء} أي: أنصار يمنعونه من عذاب الله. بيّن سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى من لا يجب داعي الله، وأخبر أنهم {فِى ضلال مُّبِينٍ} أي: ظاهر واضح، ثم ذكر سبحانه دليلاً على البعث، فقال: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السموات والارض} الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم، والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر، أي: ألم يتفكروا، ولم يعلموا أن الذي خلق هذه الأجرام العظام من السموات والأرض ابتداءً {وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ} أي: لم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه، يقال عيّ بالأمر وعيي: إذا لم يهتد لوجهه، ومنه قول الشاعر:
عيوا بأمرهم كما *** عيت ببيضها الحمامه
قرأ الجمهور {ولم يعي} بسكون العين، وفتح الياء مضارع عيي. وقرأ الحسن بكسر العين وسكون الياء. {بِقَادِرٍ على أَن يُحْىِ الموتى}. قال أبو عبيدة، والأخفش: الباء زائدة للتوكيد، كما في قوله: {وكفى بالله شَهِيداً} [النساء: 166]. قال الكسائي، والفراء، والزجاج: العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام، فتقول: ما أظنك بقائم، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن، وقرأ ابن مسعود، وعيسى بن عمر، والأعرج، والجحدري، وابن أبي إسحاق، ويعقوب، وزيد بن عليّ: {يقدر} على صيغة المضارع، واختار أبو عبيد القراءة الأولى، واختار أبو حاتم القراءة الثانية قال: لأن دخول الباء في خبر أنّ قبيح {بلى إِنَّهُ على كُلّ شَئ قَدِيرٌ} لا يعجزه شيء.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار} الظرف متعلق بقول مقدّر، أي: يقال ذلك اليوم للذين كفروا {أَلَيْسَ هذا بالحق} وهذه الجملة هي المحكية بالقول، والإشارة بهذا إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار، وفي الاكتفاء بمجرّد الإشارة من التهويل للمشار إليه، والتفخيم لشأنه ما لا يخفى؛ كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدلّ عليه {قَالُواْ بلى وَرَبّنَا} اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم؛ لأن المشاهدة هي حق اليقين الذي لا يمكن جحده ولا إنكاره {قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: بسبب كفركم بهذا في الدنيا، وإنكاركم له، وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ، وتهكم عظيم. لما قرّر سبحانه الأدلة على النبوّة والتوحيد والمعاد أمر رسوله بالصبر فقال: {فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} والفاء جواب شرط محذوف، أي: إذا عرفت ذلك، وقامت عليه البراهين، ولم ينجع في الكافرين، فاصبر كما صبر أولوا العزم، أي: أرباب الثبات والحزم، فإنك منهم. قال مجاهد: أولوا العزم من الرسل خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وهم أصحاب الشرائع.
وقال أبو العالية: هم نوح، وهود، وإبراهيم، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم.
وقال السديّ: هم ستة إبراهيم، وموسى، وداود، وسليمان، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: نوح، وهود، وصالح، وشعيب، ولوط، وموسى.
وقال ابن جريج: إن منهم إسماعيل، ويعقوب، وأيوب، وليس منهم يونس.
وقال الشعبي، والكلبي: هم الذين أمروا بالقتال، فأظهروا المكاشفة وجاهدوا الكفرة، وقيل: هم نجباء الرّسل المذكورون في سورة الأنعام وهم ثمانية عشر: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس، وإسماعيل، واليسع، ويونس، ولوط. واختار هذا الحسين بن الفضل لقوله بعد ذكرهم: {أُوْلَئِكَ الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] وقيل: إن الرسل كلهم أولوا عزم، وقيل: هم اثنا عشر نبياً أرسلوا إلى بني إسرائيل.
وقال الحسن: هم أربعة: إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى {وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} أي: لا تستعجل العذاب يا محمد للكفار. لما أمره سبحانه بالصبر، ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب {لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مّن نَّهَارٍ} أي: كأنهم يوم يشاهدونه في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلاّ قدر ساعة من ساعات الأيام لما يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء المقيم.
قرأ الجمهور: {بلاغ} بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا الذي وعظتهم به بلاغ، أو تلك الساعة بلاغ، أو هذا القرآن بلاغ، أو هو مبتدأ، والخبر لهم الواقع بعد قوله: {وَلاَ تَسْتَعْجِل} أي: لهم بلاغ. وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر، وزيد بن عليّ: {بلاغاً} بالنصب على المصدر، أي: بلغ بلاغاً. وقرأ أبو مجلز: {بلغ} بصيغة الأمر. وقرئ {بلغ} بصيغة الماضي {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون} قرأ الجمهور: {فهل يهلك} على البناء للمفعول. وقرأ ابن محيصن على البناء للفاعل، والمعنى: أنه لا يهلك بعذاب الله إلاّ القوم الخارجون عن الطاعة، الواقعون في معاصي الله. قال قتادة: لا يهلك على الله إلاّ هالك مشرك. قيل: وهذه الآية أقوى آية في الرجاء. قال الزجاج: تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلاّ القوم الفاسقون.
وقد أخرج ابن أبي شيبة، وابن منيع، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن مسعود قال: هبطوا، يعني: الجن على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه قالوا: أنصتوا، قالوا: صه، وكانوا تسعة أحدهم زوبعة، فأنزل الله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن} إلى قوله: {ضلال مُّبِينٍ}.
وأخرج أحمد، وابن جرير، وابن مردويه عن الزبير {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرءان} قال: بنخلة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة {كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 17].
وأخرج ابن جرير، والطبراني، وابن مردويه {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الجن} الآية، قال: كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، وأبو نعيم عنه نحوه وقال: أتوه ببطن نخلة.
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عنه أيضاً قال: صرفت الجنّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّتين، وكانوا أشراف الجنّ بنصيبين.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن مسروق قال: سألت ابن مسعود من آذن النبيّ بالجنّ ليلة استمعوا القرآن؟ قال: آذنته بهم شجرة.
وأخرج عبد بن حميد، وأحمد، ومسلم، والترمذي عن علقمة قال: قلت لابن مسعود: هل صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم أحداً ليلة الجنّ؟ قال: ما صحبه منا أحد، ولكنا فقدناه ذات ليلة، فقلنا: اغتيل، استطير ما فعل؟ قال: فبتنا بشرّ ليلة بات بها قوم، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء، فأخبرناه فقال: «إنه أتاني داعي الجنّ، فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن، فانطلق، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم».
وأخرج أحمد عن ابن مسعود قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجنّ.
وقد روي نحو هذا من طرق. والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعت منه صلى الله عليه وسلم مع الجنّ حضر إحداهما ابن مسعود، ولم يحضر في الأخرى.
وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجنّ بعد هذا وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّة بعد مرّة، وأخذوا عنه الشرائع.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل: النبيّ صلى الله عليه وسلم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى.
وأخرج ابن مردويه عنه قال: هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح، وهود، وصالح، وموسى، وداود، وسليمان.
وأخرج ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر.
وأخرج ابن أبي حاتم، والديلمي عن عائشة قالت: ظلّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً ثم طوى، ثم ظلّ صائماً ثم طوى، ثم ظلّ صائماً، قال: «يا عائشة، إن الدين لا ينبغي لمحمد، ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلاّ بالصبر على مكروهها، والصبر عن محبوبها، ثم لم يرض مني إلاّ أن يكلفني ما كلفهم، فقال: {اصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل} وإني والله لأصبرنّ كما صبروا جهدي، ولا قوّة إلاّ بالله».

1 | 2